آراء وتحليلات

بين الصحراء والخرز.. معجزة

دكتور / السيد مرسى

فى قلب سيناء الحبيبة، حيث تعودنا أن نسمع عن الصمود فى وجه الظروف القاسية، تخرج إلينا قصة مختلفة خارج المألوف ، نشرتها جريدة الاهرام هذه الأيام ، بطلتها فتاة كفيفة تُدعى آية كساب، لم تستسلم لفقدان البصر، و اختارت أن ترى الحياة من زاوية أخرى، زاوية الإرادة والإبداع ، وقد ولدت آية فى بيئة اعتاد فيها الناس أن ينظروا للكفيف باعتباره محتاجاً للمساعدة، غير قادر على العطاء، ولكنها قررت أن تهدم هذا الحاجز الوهمى، فدخلت عالم الخرز والأعمال اليدوية بكل شغف وإصرار، حتى أتقنت هذا الفن الدقيق الذى يتطلب عيناً ثاقبة وصبراً متناهياً، وراحت تُعلم قريناتها من الفتيات، وكأنها تقول لهن:  فاقد الشىء قد يعطيه إذا امتلك الإصرار، و ما تقدمه آية ليس مجرد “مهنة” أو “حرفة يدوية”، بل رسالة أمل بأن العجز الحقيقى هو الاستسلام لا الفقدان، إنها قصة صغيرة فى تفاصيلها، لكنها كبيرة فى معناها. فوسط ما نعيشه من صخب وضجيج يومى من شباب اليوم، يطل علينا نموذج إنسانى يذكرنا أن القوة ليست دائماً فى الجسد، وإنما فى الروح والعزيمة، آية تُعيد إلينا الثقة بأن المجتمع لا يزال قادراً على إنجاب قصص مضيئة، وأن البطولات الفردية لا تقل قيمة عن أى إنجازات كبرى، بل ربما تكون أكثر تأثيراً لأنها تمس القلب مباشرة.

آية وُلدت كفيفة، لم ترَ آية الألوان يوماً، لكنها استطاعت أن تصنع من حبات الخرز لوحات تنطق بالحياة. لم تُبصر الأشكال، لكنها نسجت بخيالها ما يعجز المبصرون عن تصوره. والأجمل من ذلك أنها لم تحتفظ بالمهارة لنفسها، بل جعلتها رسالة تشاركها مع غيرها، لكنها لم تقف عند حدود العجز. تحدّت الصعاب بإصرار لا يلين، حتى تحولت إلى مصدر إلهام لغيرها. وبينما يجلس كثيرون يتهيبون مواجهة الحياة، راحت آية تُعلم أقرانها من الفتيات حرفة شغل الخرز، لتمنحهن باباً للرزق وباباً آخر للأمل.

قصة آية ليست مجرد حكاية فتاة كفيفة تتحدى الإعاقة، بل هي صرخة حياة تقول: لا مستحيل مع الإرادة. سيناء التي عرفت دوماً معنى الصمود، تقدم اليوم عبر آية نموذجاً آخر للصبر والعزيمة والإصرار.

لم تكتف آية بأن تصنع الجمال بيديها، بل تحولت إلى مدرسة وصانعة أمل، تُعلم أقرانها من المكفوفين والمبصرين على حد سواء كيفية تحويل الخرز إلى تحف صغيرة تحمل بصمة سيناء وروحها. هنا تحققت المعجزة الحقيقية التي تقول لكل الأجيال الصغير والكبير، الكفيفة التى يقال إنها لا ترى، باتت هى من تفتح عيون الآخرين على عالم من الإبداع والرزق، هي قصة ليست مجرد حكاية نجاح شخصى، بل هي رسالة قوية للمجتمع بأسره، مفادها أن الإعاقة ليست فى الجسد بل فى الإرادة، لقد أعادت آية تعريف مفهوم القوة، فأثبتت أن من فقد بصره قد يُبصر بقلبه، وأن اليأس لا يجد طريقه إلى النفوس العامرة بالإصرار.

وفى الأخير …. يظن البعض أن الظروف الصعبة والحرمان تقيد الإنسان، تأتى آية لتؤكد العكس تماما وتقول لنا جميعا وبصوت عالى، الظروف ليست قدراً خانقاً، بل سلماً يصعد به أصحاب الإرادة نحو قمم الإنجاز، وسط حبات الخرز تنسج حكاية كبيرة عن الصمود، تُلهم كل من يظن أن العجز نهاية الطريق.

والى اللقاء: دكتور / السيد مرسى