
“طاقة نور” المُبَنّج والمسحّراتي بقلم أ.د. زكريا محمد هيبة
عاش النبي ﷺ بين قومه في قريش أربعين عامًا، عُرف خلالها بالصادق الأمين؛ وهي صفتان تختزلان كمال الرجولة وسموّ الخُلُق.
غير أن الحال تغيّر حين دعاهم إلى عبادة الله وحده، ونهاهم عن عاداتهم الباطلة وسلوكياتهم الفاسدة، فواجهوه بالرفض والعداء، حتى اضطر إلى الهجرة وترك بلده وما فيها.
تلك هي طبيعة البشر؛ يحبّون الصالح، وينفرون من المصلح.
يأنسون بالمُبَنِّج الذي يُسكّن آلامهم بالمدح والمجاملات، ولا يحتملون صوت المسحِّراتي الذي يوقظهم من غفلتهم.
يستوي في ذلك النخبة أولي العلم من الرجال، ومحدودي الثقافة، والعقلاء والسطحيون؛ فالجميع يميلون إلى من يُطرِيهم، ويُغدق عليهم كلمات الثناء، حتى وإن علموا أن فيها تملّقًا ورياءً.
جرّب أن تتأمل وجه رجل يُمدَح أمام الناس، ستجد ملامح الرضا والسرور قد ارتسمت على وجهه، مهما كان يدرك في قرارة نفسه أن المديح ليس صادقًا.
وفي المقابل، ينفر أكثر الناس ممن يواجههم بأخطائهم، ويبتعدون عمّن يكشف لهم عيوبهم، ويستثقلون من ينصحهم بصدق، ولو كان غرضه الستر والإصلاح.
حدّثني صديقٌ يومًا فقال: رأيتُ جارتي المراهقة تقف مع شاب عند منعطف الطريق، فأحسست بغيرةٍ شرقيةٍ صادقة، ودفعني حقّ الجوار إلى أن أخبر أباها.
فما كان من الأب إلا أن قال ببرود: “وأنت مالك”!.
هل أزعجه أن أيقظه هذا الجار من غفوته؟ لا أجد لذلك تقسيرًا غير هذا.
وهكذا يبقى الفرق شاسعًا بين من يُسكِّن الألم ومن يُحاول شفاؤه،بين من يُغري الناس برقادٍ مريحٍ على وسادة الوهم، ومن يوقظهم لصلاة الوعي على صوت الحقيقة. قد لا يُحب الناس المسحِّراتي في لحظة صياحه، لكنهم ما إن يفيقوا، يدركون أن صوته كان رحمةً، لا إزعاجًا.