
“طاقة نور” من زان نومه زان يومه بقلم أ.د. زكريا محمد هيبة
غالبًا ما أقف أمام الحِكم موقفَ المتأمّل، وأحيانًا موقفَ المندهش. غير أنّ هذه الحكمة بالذات – “من زان نومه زان يومه” – لم تكن مجرّد قول مأثور مرّ عليّ، بل تجربة عشتها وتأملتها مرارًا، حتى صارت يقينًا.
ألم يخبرنا شيخ المعرة:
وفَضيلةُ النّوْمِ الخرُوجُ بأهْلِهِ
عن عالَمٍ هوَ بالأذى مَجْبولُ
لعلّ في النوم رحمةً من الله لعباده الطيّبين، الذين ما أن يضعوا رؤوسهم على الوسادة حتى يغيبوا في نومٍ عميق، كأنّما يُكافئهم الله على صفاء سريرتهم بأن يُبعدهم سريعًا عن هذا العالم “المجبول بالأذى”
يقول الكاتب الألماني فرانز كافكا: “النوم هو أكثر المخلوقات براءة، والرجل الذي يهجره النوم هو أكثر المخلوقات ذنوبًا”.
وللناس فيما ينامون مذاهبُ وأطوار.
فمنهم من ينام نصف يومه، كما كان يفعل ألبرت أينشتاين الذي كان ينام عشر ساعات يوميًا، ومنهم من يقتصد في نومه ويقسّمه كـ ليوناردو دافنشي، الذي كان ينام ساعتين في الليل، ثم يأخذ قيلولة ربع ساعة كل أربع ساعات!
وهناك من لا ينام إلا في ظلام دامس، ومن لا يهدأ له جفن إلا في ضوءٍ خافت. بعضهم لا يحتمل همسًا، وآخر لا يستغني عن صوتٍ يصاحب نومه.
منهم من لا يأنس إلا بنومٍ منفرد، وآخر لا يزور النوم عينيه إلا إذا شاركه أحد الفراش. بل إن تشارلز ديكنز كان يحمل بوصلة معه ليتأكد أنّه ينام متجهًا نحو الشمال!
وهناك من ينام على جنبه أو على ظهره أو على بطنه، ومن ينام جالسًا كما كان يفعل نابليون وهو على صهوة حصانه في ساحة المعركة. بل إن أينشتاين نفسه كان يمسك مفاتيح بيده فإذا سقطت استيقظ، وكأنه ابتكر منبّهًا بشريًّا!
قال لي أحد أصدقائي الظرفاء:
“لا أنام إلا وقد وضعت ساقًا على ساق، وأنا على ظهري”.
ثم أضاف مبتسمًا: “وابنتي ورثت عني هذه العادة”.
فقلت له ممازحًا: “واضح إنكم عائلة أنتوكة!”
ومن الناس من يعاني استحضار النوم، ومنهم من يستدعيه كزرّ يُضغط فينام فورًا.
أعرف قريبًا لي ما أن يضع رأسه على الوسادة حتى ينام قبل أن يتمّ قراءة {قل هو الله أحد}، وهو من أنقى الناس قلبًا وأقربهم إلى الله.
ومن الناس من يعاني استحضار النوم، وغيرهم ممن يدخلون النوم وكأنهم يضغطون على زر نمْ؛ فينام. أعرف قريبًا لي ما أن يضع رأسه على الوسادة حتى ينام قبل أن يتمّ قراءة “قل هو الله أحد”. وأعرف عنه أيضًا أنه نقي تقي قريب من ربه.
وأعرف آخرين حالهم كما المتنبي، ذاك الذي قال معبرًا عن حاله:
أَرَقٌ عَلى أَرَقٍ وَمِثلِيَ يَأرَقُ
حدثني أحد أصدقائي عن معاناته أثناء مرضه من الأرق بسبب السعال، الذي كان يوقظه كلّما غفا. لم أدرك معاناته حق الإدراك حتى جرّبتها بنفسي، حين اضطررت للنوم على جنبٍ واحد، فأصبحت أستيقظ كلما حاولت التقلب. عندها أدركت أن اضطراب النوم ليس بالأمر الهيّن؛ فقد تنغّص نومي واعتلّ مزاجي، وضعفت قدرتي على القراءة النقدية، وبهتت لياقتي في الكتابة.
وأنا الذي لا أعرف معيارًا أدقّ لجودة مزاجي من قراءتي وكتابتي.
إنّ النوم نعمة جليلة لا نلتفت إليها إلا حين نفقدها.
تخيّل نفسك بلا نومٍ ثلاثة أيام متواصلة؛ ستقترب من الجنون، لا مجازًا بل حقيقةً.
يقول نزار قباني: “قبل النوم ارتدي أجمل ما عندك، ورتب غرفتك؛ فبعض الذين يأتون في الحلم يستحقون حفاوة أكثر من الذين يأتون في الواقع “.
فلله الحمد والمنّة على ما أنعم:
على السمع والبصر، والشمّ والذوق، والكلام والتنفس، والمشي والعقل، والهضم واستساغة الطعام، وشرب الماء… والنوم.