
جريمة تهز الضمير.. حين تتحول الميديا إلى مصنع للعنف
بقلم عادل رستم
استيقظ المجتمع المصري على جريمة مفزعة في الإسماعيلية بعد أن أقدم طفل على قتل صديقه بطريقة مروعة لم تكن مجرد حادث فردي بل صدمة هزت الضمير العام وأطلقت أسئلة عميقة حول التحولات القيمية التي يشهدها جيل كامل. لم يولد هذا العنف فجأة ولم يكن وليد لحظة غضب عابرة بل هو نتيجة تراكمات صنعها واقع جديد أصبحت فيه الميديا هي المربي الأول والمؤثر الأعمق في تشكيل عقول الصغار ونفوسهم.
إن الطفل الذي يرتكب جريمة بهذه البشاعة لا يصل إلى تلك اللحظة صدفة بل بعد رحلة طويلة من التعرض لمشاهد عنف متكررة في الألعاب الإلكترونية التي تحول القتل إلى لعبة وفي مقاطع الفيديو التي تجعل من العنف وسيلة للترند والشهرة وفي عالم رقمي يطبع الجرائم ويجعل الموت حدثًا عاديًا لا يوقظ ضميرًا ولا يحرك وجدانًا. لقد تحول الهاتف المحمول إلى نافذة مفتوحة على عالم بلا قواعد أخلاقية بينما غابت الأسرة عن دورها الحقيقي في المتابعة والتوجيه وأصبح الحوار داخل البيت غائبًا أو نادرًا فبحث الطفل عن قيمه خارج بيئته الطبيعية ليجدها في فضاء افتراضي لا يعرف الرحمة ولا يعترف بالإنسانية.
هذه الجريمة تكشف أننا أمام جيل يتشكل وعيه بعيدًا عن المدرسة والمنزل جيل يعيش داخل غرف مغلقة لكنه متصل بأفكار وسلوكيات عابرة للقارات. لقد تراجع دور المدرسة كمؤسسة تربوية واختزل دورها في الدرجات والشهادات بينما تراجع دور الإعلام المسؤول أمام موجة ضخمة من المحتوى العنيف الذي يُقدَّم في صورة ترفيه وتشويق. اختفت القدوة الحقيقية وحل مكانها المؤثر الرقمي الذي يصنع شهرته من العبث وإثارة الغرائز وأصبح الطفل يقلد ما يشاهده دون إدراك لعواقبه.
إن جريمة الإسماعيلية ليست حادثة شاذة بل جرس إنذار يدق بقوة يحذر من مستقبل أكثر ظلمة إذا لم نتحرك بإرادة واعية. فالطفل الذي فقد الإحساس بحرمة النفس اليوم قد يصبح نموذجًا مكررًا إذا استمر هذا الانهيار القيمي. نحن بحاجة إلى إعادة الاعتبار لدور الأسرة ليس كمراقب يعاقب بل كحاضن يبني الوعي ويزرع الرحمة. نحن بحاجة إلى إعلام وطني قوي يقدم بدائل حقيقية تجذب الطفل وتحميه كما نحتاج إلى إدخال التربية الإعلامية في المدارس ليعرف الطفل كيف يميز بين المحتوى الضار والمفيد.
إن حماية أطفالنا لم تعد مسألة اختيارية بل هي قضية أمن قومي وأخلاقي. وإذا سكتنا اليوم فلن نسكت غدًا حين تصبح الجرائم أكثر فظاعة وأكثر انتشارًا. إن مستقبل الأمة يبدأ من عقل الطفل فإذا امتلأ بالعنف ضاعت الرحمة وإذا غابت الرحمة انهارت إنسانية المجتمع بأكمله. الجريمة لم تكن النهاية بل كانت الصرخة الأخيرة قبل الانهيار.. فهل نسمع الصوت قبل أن يغرق الجميع في وحل الصمت.