
“طاقة نور” من هنا نبدأ.. بقلم أ.د. زكريا محمد هيبة
كنتُ أتناول فطوري حينما تهادى إلى سمعي صوتُ تلاميذ المدرسة المجاورة، يردّدون بصوتٍ جماعيٍّ منتظم، تتخلله فتراتُ صمتٍ قصيرة، ثم يعود الصدى الجماعي من جديد.
تسلّلتْ إلى ذاكرتي صورةُ مدارسنا قبل نصف قرن، يوم كنّا تلاميذ في المرحلة الابتدائية، فوجدتُ المشهد نفسه يتكرّر: الأسلوب الإلقائي، التلقين ذاته، وكأن الزمن لم يتحرّك خطوة واحدة!
أيعقل، بعد هذه العقود الطويلة، أن نظل أسرى للتلقين الأعمى؟!
لم تمضِ دقائق حتى كنتُ على الطريق، مارًّا بجوار سور تلك المدرسة، فإذا بي أسمع المعلمة تقرأ آياتٍ من سورة الغاشية:
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم﴾
لكنها نطقتها خطأ: قالت “إنا إلينا” بدلًا من “إنَّ إلينا”، و”ثم إنا” بدلًا من “ثم إنَّ”!
زادتني تلك اللحظة غمًّا بغمٍّ؛ إذ انحدرتُ من أسى الطريقة التدريسية إلى أسى أشدّ ، على معلمةٍ لا تُحسن تلاوة القرآن، ولا تُتقن أبجديات مهنتها.
أكلتني الأسئلة طوال الطريق؛ من المسئول عن هذه المعلمة وأشباهها؟
أنا -كأستاذ جامعي في كلية التربية، أُعِدّ المعلّم وأُدرّبه – أتحمل جزءًا من هذه المسؤولية.
ليس هذا جلدًا للذات، بل مواجهة صريحة مع الحقيقة.
نعم، إننا -نحن أساتذة كليات التربية – نتحمّل قسطًا من هذا التراجع المهني للمعلم. أفهم أن المنظومة متشابكة، تشمل: القبول، والبرامج، والعمليات، والبنى التحتية، والكيانات الداعمة…
لكن “البناء الفوقي” -المتمثّل في الأستاذ الجامعي – هو العامل الأهم في صناعة الأثر. فهو من يُجري مقابلات القبول، ويشارك في تصميم البرامج، ويتولى التدريس والإرشاد والتقويم.
فإذا خرج من بين أيدينا معلمٌ ضعيف الأداء، لا يُحسن يقرأ، فذلك يعني أن منظومة الإعداد نفسها تشوبها ثغراتٌ واضحة، وأن المسؤولية الكبرى تقع على المؤسسة التي تهاونت حتى أخرجت معلمًا بهذه الصورة المتواضعة.
ثم ماذا بعد؟
تعود إلينا البضاعة التي بعناها؛ معلمٌ مهزوزٌ يخرّج أجيالًا مهزوزة:
مهندسٌ بعقل سمسار،
وطبيبٌ بضمير مقاول،
وأستاذٌ جامعيٌّ بمنطق ساعي البريد،
ومعلمٌ بأداءٍ مسرحيٍّ يعيد إنتاج الدائرة الجهنمية ذاتها!
إن أيّ مجتمعٍ ينشد الرقي والتطوّر، فبدايته الحقيقية هي التعليم.
وأيّ أمةٍ تطمح إلى النهوض، فلا سبيل أمامها إلا هذا الطريق الأصيل، الذي تتفرع منه كل سبل التنمية الأخرى.
ولا إخال إحداث نهضة ما مهما أُنفِقَ عليها -ولو أنفقنا أموال الخليج مجتمعة – ما لم نُصلح منظومة التعليم.
وكلمةٌ أخيرة، أقولها لا بلسان الواعظ، بل بلسان المخلص لقضيته:
إن “معلّم المعلّم” بحاجةٍ ماسّةٍ إلى المزيد من التجويد، والمراجعة المهنية النقدية، والتفاعل الصادق مع الطلاب، والتجديد المستمر في الفكر والممارسة، والانضباط الأخلاقي والمهني.
ولأننا أصحاب رسالة؛ فلنكن فخورين بأننا بصدد بناء أهم أعضاء المجتمع قاطبة “المعلم” فبتكوينه الجيد: عقليًا، ونفسيًا، ومهاريًا؛ نكون قد أحدثنا فرقًا كبيرًا، وكسبًا يُذكر. وإلا فالتراجع سيكون مصيرنًا، وليت ساعة مندم.