آراء وتحليلات

رسايل نساء أكتوبر — حين صنعت المرأة السيناوية ملحمة الصمود والمقاومة والهوية خلف خطوط العدو

 

بقلم /سهام عزالدين جبريل

قارب اكتوبر على الرحيل ولكن ذكرياته لايمكن أن ترحل ابدا فهو الروح التى بعثت فينا أملا جديدا وزرعت فينا قيمة البطولة والفداء والمعنى العظيم للانتصار وأركانه الصلبة والناعمة صنعت مجتمع النصر
وفي رواية النصر لا تكتمل السطور إلا حين تُقَرَأ الحكايات الخفية التي كتبتها نساء سيناء: أمّ تحفظ البيت والذكرى، معلمة تُعلّم ابنتها كيف تصون الانتماء، طالبة تفكّ شيفرة رسالة إذاعية، فتاة رعوية تمحو أثر الجندي بصبرها، وبيت يتحول إلى مستشفى وسجلّات الدولة تُخفى بين الجدران. هذا المقال يوثّق، وبعين تحليلية، كيف تحوّل المجتمع السيناوي كله — وعلى رأسه المرأة — إلى جهاز مقاومة متكامل، حضاري، وإنساني، نحت طريقه الثابت خلف خطوط العدو.

*المرأة السيناوية: أيقونة قلب المقاومة النابض
لم تكن المرأة مجرد داعم خلفي؛ بل كانت فاعلة استراتيجيّة. في ظل غياب الدولة أو انحسار حضورها، تولّت المرأة مهام الرعاية، الإيواء، التنظيم، ونقل الدعم للمقاتلين. البيوت كانت تحولت إلى مستشفيات ميدانية تستقبل الجرحى وتُضمّد جراحهم، وتصبح أيضاً مراكز اتصال وإيواء للمطاردين. لم تملك المرأة السلاح التقليدي فأبدعته بوسائل أخرى: الذكاء، التمويه، الصبر، والشبكات الاجتماعية المحلية.

*مهمة نقل المعلومات، الرصد، ورسم خرائط العدو
وهى أحد أبلغ أدوار النساء كان في مجال الاستخبارات الشعبية: رصد تحركات العدو وتدوين مراكزه وطرق إمداده، ونقل هذه المعطيات عبر قنوات آمنة إلى خلايا المقاومة. لم يكن العمل استخباريًا عابرًا؛ بل تطلب فهماً ميدانيًا، قدرة على الملاحظة، ورباطة جأش في لحظات الحرج. بفضل هذه المعلومة الشعبية، توفّرت أدلة تكتيكية أسهمت لاحقًا في تخطيط العمليات والتحرّر.
*بنات الرعي: من راعيات و حارسات الأمن فى الخفاء ومحو الآثار
انهم بنات البادية اللواتي يرعين الأغنام قدمن مهارات عملية حاسمة: محو آثار أقدام الجنود، تغيير مسارات الرعي، وإخفاء أي أثر قد يؤدي للاكتشاف. هذا الدور البسيط في ظاهره كان عمليًا واستراتيجيًا في آنٍ واحد؛ فالأرض والليل كانت ساحة عملهن، وفهمهن لطبيعة الصحراء جعلهن خط دفاع فعّالًا.

*بيوت العريش كمراكز وطنية بديلة:
حفظ الأمانات وإيواء المؤسسات
لم تقتصر مساهمة البيوت على استضافة الافراد والمقاتلين فقط؛ بل استضافت أوراق الدولة ومعداتها: أثاث المدارس، والإدارات الحكومية والأجهزة اللاسلكية وسجلات المستشفيات، وأجهزة مؤسسات محلية. حفظ هذه الأمانات داخل جدران المنازل لم يكن عملاً وظيفيًا فحسب، بل حماية للوجود المؤسساتي والذاكرة التنظيمية للمنطقة إلى أن تستعيد الدولة سلطتهاحيث تم إعادتها إلى الجهات المصرية المعنية بعد عودة سيناء

*التعليم كجبهة مقاومة: المعلمون، الطلبة، والأمهات
التعليم تحوّل إلى جبهة محورية لمقاومة التهويدوالتبشير :
المعلمون قاوموا الروايات المزيّفة داخل الفصول، وابتكروا أساليب لتثبيت الانتماء عبر القصص والتراكيب الثقافية المحلية. الأمهات شجّعن بناتهن على التعلم، وغيّرن توجهات مجتمعية راسخة بوعيٍ عميق: أن التعليم لم يعد ترفًا، بل أصبح سلاحٌ لبناء جيل يعرف تاريخه ويستطيع مقاومة الحملات الفكرية . أما الطلبة فكانوا عنصراً نشطاً في نقل المعلومات وفك رموز الرسائل الإذاعية السرية لقد تحول المجتمع إلى جبهة المقاومة وراء خطوط العدو
*لقد كان مهمة أداء عمل استخباراتي قائماً على اليقظة والمعرفة مثل
*مهمة فك الشيفرات والرسائل الإذاعية
كانت هناك رسائل وتوجيهات عبر موجات إذاعية، ومنها ما احتمل رموزًا ومفاهيم مُشفّرة. لعبت فئات من الشباب والطالبات دور المفسّرين ومكتشفي المعاني بين السطور، مما قدّم للمقاومة معلومات ثمينة. هذا يبرز أهمية الثقافة والمعرفة في زمن الحرب؛ فالفهم يقود إلى فعلٍ أعمق من مجرد الاستماع.
*مواجهة الغزو الإعلامي: صمود في ميدان السرد
الإعلام كان ساحة قتال نفسية؛ العدو حاول تشكيل وعي السكان عبر مناهج وأدوات بثّ. النساء والمدرسون والأهل قاوموا ذلك بإبقاء سردية الوطنية حية: الأغاني الشعبية، الحكايات، السرد الشفهي، والذكريات العائلية أصبحت وسائل مناعية ضد محاولات الطمس. الحفاظ على اللغة واللهجة والطقوس شكّل جزءًا من استراتيجيات الصمود الثقافي.

*التراث كأداة مقاومة ثقافية
الزيّ، المطرزات، الحرف اليدوية، الأغاني والطقوسالعادات والتقاليد ليست مجرد تراث؛ بل كانت وثائق دفاعية. كل قطعة تراثية، وكل أغنية تُردّد كانت تُعلِن الوجود وتدفع بقوة ضد مشاريع التهويد، محقّقة دمجًا بين الذاكرة الجماعية والمقاومة اليومية.
*التأثير الاستراتيجي للمقاومة المجتمعية
الوقائع تشير إلى أن نجاح العمليات المستقبلية وتحول المعارك العسكرية إلى انتصارات سياسية لم يكن ليكتمل دون هذا العمق الاجتماعي ومنظومة المقاومة الذى صنعة الأهالى من ادوات التذكارية محلية من نماذج النجدة، الإيواء، المعلومات، التعليم، وحفظ المؤسسات. المقاومة الشعبية — والتى تولت أدوارها النساء بجانب الرجال حيث شكّلت بنية تحتية لا تقل أهمية عن البنية العسكرية، بل مكّنت المجتمع من البقاء واستعادة السيادة لاحقًا..
*خاتمة تحليلية
تؤكد تجربة سيناء أن المقاومة أشمل من ساحة القتال؛ إنها عقلية، ذاكرة، تعليم، وتراث. المرأة السيناوية، بكل وجوهها — أم، معلمة، طالبة، راعية — لم تكن شاهدًا على البطولة فحسب، بل صانعتها. إن توثيق هذه السرديات وإدراجها في الذاكرة الوطنية والمناهج التعليمية والإعلامية هو واجب لتحويل دروس التاريخ إلى مناعة ثقافية مستدامة تقدم نموذج فريد من رسائل نساء أكتوبر التى لا تنطفئ فهي دعوة مستمرة للاعتراف، التقدير، والتعلّم من حكمة من حمت الوطن عندما غاب عنه الحاضر الرسمي وكلفت نفسها بأدوار ومهام حماية الوطن وإعلاء القيم الوطنية فى اصعب الايام واقسي الظروف .
واليوم اتسأل اين هذه القصص والحكايا ومن صنعت خيوط البطولة ونسجن فصل عظيم من ملحمة اكتوبر ,
نظرة مستقبلية
*من ذاكرة المقاومة إلى سؤال المستقبل
تؤكد تجربة سيناء أن المقاومة ليست حدثًا عسكريًا عابرًا، بل حالة وعي متجذّرة في الضمير الجمعي، تنبض في التعليم، واللغة، والذاكرة، والبيت.
لقد كانت المرأة السيناوية — أمًّا، وطالبة، ومعلّمة، وراعية — صانعة الوعي وسند المقاومة ومهندسة الهوية الوطنية.
هي التي جعلت من البيت ثكنة للكرامة، ومن التعليم خندقًا للوعي، ومن التراث سلاحًا ضد الطمس.
واليوم، ونحن نُعيد قراءة تلك الصفحات التي كتبتها نساء سيناء بدموعٍ وكبرياء،
أسأل ابنائي وبناتي من هذا الجيل والمربين والمعلمين الأفاضل هل علمتم بقصص الآباء والأجداد ذلك الجيل المكافح : اين انتم من هذا المشهد؟ هل علمتم بهذه الأدوار
أين صدى تلك الروح التي واجهت العدو بلا سلاح، ووقفت في وجه الجهل والغزو بثقة وإيمان؟
واين المؤسسات البحثية والجامعات و الثقافية والاعلامية من توثيق هذه الأدوار التى تحي فينا قيمة الوطن وتعزز الهوية والفخر بتاريخ مضئ يمكن أن يصبح نبراسا مشرقا للمستقبل ويحفز فينا الوعى والقيم الوطنية العظيمة ؟؟؟
إنّ معركة الوعي لم تنتهِ، وإن اختلفت ميادينها. فاليوم ساحة القتال هي العقل والإعلام والتكنولوجيا، وأدوات الاتصال الحديثة وسلاحها هو المزيد من العلم والتعلم وإعلاء قيم الهوية والانتماء.
وكما حملت أمهات سيناء راية الصمود في وجه الاحتلال، فإن على بنات هذا الجيل أن يحملن راية الوعي في وجه التزييف، وأن يكتبن فصلهنّ من “رسائل نساء أكتوبر” بلغة العلم والصدق والإبداع.
فالمقاومة ليست ذكرى تُروى، أو ندوة تقام أو احتفالية سنوية تدشن بل هى أكبر من ذلك بكثير فهى رسالة للأجيال لابد أن تُستكمل لتحافظ على موجات الغزو الجديد . ومن سيناء… تبدأ دائمًا الحكاية.

خالص تحياتى
❤️ ❤️
د/ سهام عزالدين جبريل
دكتوراه في الإعلام السياسي والعلاقات الدولية
-زمالة الأكاديمية العسكرية للدراسات الاستراتيجية العليا – عضو البرلمان المصري سابقًا