
عجب العجاب فى أرض الحرمين
دكتور / السيد مرسى الصعيدى
لم أكن أتصوّر، وأنا أعبر بوابة الطائرة إلى أرض الحرمين، أن هذه الرحلة ستوقظ فيّ كل تلك الأحاسيس التي اعتقدت أنها نامت منذ زمن بعيد، كان كل شيء من حولي يهمس بحديث مختلف ، حديث لا يُقال بل يُشعر به ، منذ أن وطأت قدماي مدينة جدة (عروس البحر الأحمر) التي تجمع البحر والتاريخ، أخذني الذهول من أول لحظة… فقد وجدت نفسي أمام مشهد ليس كأي مشهد، وواقع يفوق الخيال ، فالبحر يهمس بلغة العراقة، والمدينة ترد عليه بأبراجها وأسواقها الذكية وشوارعها الواسعة المنسقة، التي تنبض بحياة لا تهدأ مشهد لا تصوغه الكلمات بسهولة فهذه البلاد التي كانت يومًا مقصدًا للروح والعبادة، أصبحت اليوم بجانب ذلك مقصدًا للعقل والعين… عمران شاهق يعلو نحو السماء، وحداثة تتسلل برقة إلى كل زاوية، وكل مبنى يروي فصلاً من كتاب نهضة لا تُكتب بالحبر، بل بالعمل، تلمس في ملامحها إصرارًا أنيقًا على أن يكون الغد أجمل من اليوم ، فهذه مدنٌ ناهضة تتلألأ في الليل كالنجوم، ومشروعاتٌ تنبض بالحياة في وضح النهار، وكأن البلاد تعانق المستقبل بيد، وتُكرّم ماضيها العريق باليد الأخرى، وفى مكة مكرمة، شعرت أنني لا أسير وحدي، بل يرافقني سيل من السكينة ينساب في عروقي بهدوء، فالشوارع الفسيحة، كأنها فُتحت للسماء لا للبشر، رأيت الأبراج تحيط بالحرم المكي الشريف كأنها حراس الزمن الجديد تشق عنان الغيم، والمساجد تتلألأ بأضواء لا تشبه غيرها… أضواء لا تبهرك بقدر ما تضيء قلبك ، هنا تشعر أن الماضي والمستقبل يتصافحان، وفى المدينة المنورة، الحلم حين يتحقق، الهواء رقراق ناعم كهمس الأمهات، والروح ترتدي عباءة الطمأنينة، الناس يتبادلون النظرات كما يتبادل الصائمون التمر عند الغروب… بلطف، وبحب، وبسلام ، وفي رحاب المسجد النبوي، وجدت صحبة صالحة التي انعم الله عليهم بالخير والبركات ، وقلت لنفسي: هنا لا يُقاس الزمن بالدقائق والساعات، بل بالنبضات ، ولأن الحداثة ليست أضواءً فحسب، فقد رأيت في كل شبر من هذه الأرض عملاً منظّمًا، وتخطيطًا دقيقًا، ومشاريع تنبت كما تنبت الورود في الربيع. التكنولوجيا ليست طارئة، بل جزء من النسيج اليومي… وعدت إلى ابنتي في جدة، وأنا أعلم أن هذه الرحلة لم تكن مجرد زيارة، بل كانت درسًا في كيف يُبنى وطن… لا بالحجارة فقط، بل بالإرادة.
وفى الأخير…همست لنفسي إن للأماكن أرواحًا، هنا في أرض الحرمين، الروح تسبق المكان، وتحتضنك قبل أن تخطو إليه. إنها أيام قليلة، لكنها كانت كافية لأرى بعيني عجب العجاب، نهضة عمرانية وصناعية وتكنولوجية تملأ المكان ضياءً، وتمنح الزائر شعورًا بأنه يسير في بلدٍ لا يخطو نحو المستقبل فقط، بل يصنعه.
والى اللقاء: دكتور / السيد مرسى الصعيدى