مقالات

لعنة الفهم.. بقلم المهندس محمد الزملوط

هي لعنة لا ترى، لكنها تفتك بأصحابها في صمت، كالسم يسري في عروق الوعي. أن تفهم يعني أن تصاب بداء الإدراك، أن ترى ما لا يريد الناس أن تراه ، أن تسمع خلف الكلمات أصداء النوايا، وأن تلتقط من بين السطور خيوط الخداع المنسوجة بعناية.

الفهم ليس نعمة كما يظن السذج، بل عبء ثقيل ينوء به القلب قبل العقل. من يفهم، يرهق، لأن إدراكه لما يدور يجعله يتألم في صمت، يثور في داخله وهو صامت، يبتسم وهو يختنق. يفهم اللعبة، ويدرك الأقنعة، ويرى المسرح بكل ما فيه من تصفيق مزيف وأبطال كرتونيين.

هو يعلم أن الصدق أصبح نغمة نشازا في لحن الحياة، وأن الطيبين يساقون كالأضاحي نحو مذبح الغفلة. لكنه لا يستطيع انقاذهم ، فكل شيء في داخله يصرخ: لقد فهمت. فيخسر البعض، ويبتعد عنه البعض، ويتهم بالغرور تارة وبالتعقيد تارة أخرى. لا لشيء، إلا لأنه رأى ما لم يره الآخرون.

أما ذاك المغيب، فهنيئا له. يعيش مبتسما كطفل في مهرجان، يصفق لجلاده، ويهتف باسم من امتطاه، ويظن نفسه في نعيمٍ لأنه لا يدرك أن النعيم الحقيقي في مناخ وعي صحي ، ولا يدرك أن وعيه المفقود هو راحته الوحيدة. يعيش مغموسا في غيبوبته، محاطا بزيفٍ يحسبه حقيقة، ويظن أن نجاته في الطاعة، وأن الأمان في العمى.

ثم هناك صنف نادر من الأذكياء، أولئك الذين فهموا ثم قرروا التظاهر بأنهم لا يفهمون. يبتسمون للغافلين، ويجالسونهم على موائد الوهم، لكن في أعماقهم بحر من الإدراك الساكن، لا يبوحون بسرهم ولا يبدون علما، لأنهم عرفوا أن الفهم إذا أُعلن صار لعنة مضاعفة.

يا لها من مفارقة مرة، أن يكون الجهل دواء، وأن يكون الفهم داء، وأن يكون أعقل الناس أكثرهم ألما. فالمغيب يعيش في سلامٍ مزيف، والعاقل يتقلب على جمر وعيه، بين أن يصمت فيختنق، أو يتكلم فيحرق.

وهكذا تمضي الحياة، بين من يفهم فيعاني، ومن لا يفهم فيرتاح، ومن فهم وتجاهل فنجا.

ولعل النجاة الحقيقية ليست في أن نفهم كل شيء، بل في أن نعرف متى نتظاهر بأننا لم نفهم شيئا.