مقالات

“طاقة نور” خيارات صعبة.. بقلم أ.د. زكريا محمد هيبة

في مسرحية “نهر الجنون” يصوّر توفيق الحكيم الصراع الأزلي بين الإنسان العاقل والمجتمع المجنون، كاشفًا كيف يمكن أن يتحوّل العقل نفسه إلى نقمة حين يعيش صاحبه في بيئةٍ غارقة في الوهم.

لقد أراد الحكيم أن يطرح سؤالًا فلسفيًا جريئًا: أيهما أفضل؟ أن تكون عاقلًا في عالمٍ مجنون، أم مجنونًا في عالمٍ سعيد؟
وقد لخّص أبو الطيب المتنبي هذه المفارقة ببيتٍ خالد من الشعر، صار أشبه بحكمةٍ تُتداول عبر العصور:

ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ
وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ
وفي رواية “أرض النفاق” يقدّم يوسف السباعي صورة أخرى للصراع ذاته، بين القيم المثالية والواقع الفاسد، بين الصدق والنفاق، وبين إنسانٍ يتمسّك بمبادئه فيُهمَّش، وآخر يتخلّى عنها فيُكافأ.

إن الوعي الزائد مؤلم، وربما مضرّ بصاحبه؛ فالتدقيق في التفاصيل وطلب المثالية في الناس طريقٌ معبّد نحو الجنون.
تأمّل حولك:

زميلٌ يتأخر عن موعده عشر دقائق أو ساعةً دون أن يعتذر.
جارٌ يُلقي نفاياته اليومية حوله بلا اكتراث.
رجلٌ يتحدث في هاتفه بصوتٍ مرتفع يسمعه كل من في السيارة.

آخر يتجاوز الطابور وكأن الوقوف أعجاز نخل خاوية!
وطالبة تعبث بهاتفها بينما يشرح الدكتور في المحاضرة.
مثل هذه التفاصيل تمر على الناس العاديين مرور الكرام، لكنها عند الجادّين الواعين تصبح مصدرًا دائمًا للضيق والعكننة.
وإن حاولت أن تُعلّق أو تلتزم بمبادئك، واجهت نقدًا صريحًا أو تلميحًا ساخرًا، وكأن الخطأ فيك لا في غيرك.

كان صاحبي في اجتماعٍ عبّر فيه عن رأيه المخالف لرأي من يرأس الجلسة، فاستشاط الأخير غضبًا لأن أحدًا خالفه!
وهذا أمر مألوف – فالناس غالبًا لا تحب من يعارضها – لكنّ الأعجب أن بعض الحاضرين رأوا أن هذا الزميل أخطأ لمجرد أنه عبّر عن رأيه!

وهذا صاحب آخر كان ينشد ضبطًا لما يدور في فلك المناقشات العلمية، وما يصاحبها من ممارسات أقل ما يُقال فيها بأنها بائسة، فإذ به يقابَل بسيل من النقد؛ وكأنه هو المخطئ، والمتجاوزون على صواب!

وهكذا بتنا أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما أن تكون واعيًا فتشقى بوعيك، أو غافلًا فتسعد بجهلك!
فاختر لنفسك.