
بقية – حديث الإسرائيلي ورجولة المقاومة
بقلم : دكتور السيد مرسى الصعيدى
لم يكن اسم الجندى الإسرائيلي “ألكسندر توريانوف” يتردد في الصحف يوماً، ولا مرّ ذكره في نشرات الأخبار قبل أن يصبح أسيراً فى غزة، رجل جاء من خلف الحدود يحمل خوذة وسلاحاً واعتقاداً متجبراً بأن القوة في فوهة البندقية، وأن الرجولة تُقاس بصلابة الدرع وسرعة الطلقة. لكنه خرج بعد 498 يوماً أسيراً، وخرج قبلها شيئاً آخر: إنساناً جديداً تعلم معنى الرجولة على يد من ظنّهم أعداءه، قال كلمته التي دوّت في الضمير العالمي- “لقد حُفرت لطفكم في ضميري إلى الأبد.. تعلمت منكم معنى الرجولة والبطولة النقية واحترام الإنسانية، ليست هذه الكلمات عبارة شكر؛ إنها شهادة تاريخية تنحني أمامها لغة القوة، ويقف العالم مرتبكاً: كيف يمكن لمقاومة محاصرة تقاتل تحت النار أن تمنح لأسيرها درساً في الإنسانية؟
الرجولة التي تحدّث عنها توريانوف ليست رجولة العضلات ولا صخب السلاح، بل تلك التي تنبض في موقف رجل يقف ثابتاً أمام الظلم، يدافع عن أرضه وحقه وأطفاله، ويظل رغم الجراح يقف فوق الأنقاض متمسكاً بإنسانيته، لقد رأى الأسير في وجوه رجال غزة ما لم يجده في قادته ودباباته، رأى شباباً يودعون رفاقاً بابتسامة واثقة ويعودون للثغور دون تردد، رأى أمهات يخبئن دموعهن تحت عباءات الصبر، وأطفالاً يحفظون أسماء الشهداء كأنها أسماء نجوم، رأى شعباً محاصَراً لكنه عزيز، مكسور الظلال وراسخ القلب ،وهناك في أقبية الأسر وتحت هدير الطائرات، اكتشف أن البطولة لا تُلقّن في الثكنات، بل تُكتب على صمود الطين حين يعانق السماء، وأن الرجولة ليست ما حمله معه حين دخل غزة، بل ما حمله معه حين خرج منها.
خرج توريانوف أسيراً محرراً، لكنه في الحقيقة كان معلَّماً متحرراً من غرور القوة، حمل في قلبه شهادة مكتوبة بدموع الأمهات ونبض المقاومين، في مدرسة التاريخ، تُصبح شهادة الخصم أبلغ من مدح الصديق. وقد قالها أحد الأسرى الإسرائيليين عقب إطلاق سراحه:”تعلمت منكم معنى الرجولة الحقيقية “.ليس هذا أول أسير يقول ذلك، ولن يكون آخر من شهد بأن خلف كل مقاوم أم وطفل ومسجد وذاكرة، لا تساويها قوة السلاح مهما بلغ، وقد اضطرت صحف غربية مرموقة للاعتراف بأن صمود غزة لم يكن مجرد حرب، بل كان درساً في الإرادة والمروءة والكرامة الإنسانية. وهذا الاعتراف ليس مجاملة، بل محاولة لفهم للواقع.
وأخيرا …. الإنسانية لا تسقط في ليل الحرب، بل تتجلى حين تظن أن كل شيء انتهى … إنها غزة… مدرسة الرجولة لمن اعتقد أن الرجولة تُصنع في مصانع السلاح، وها هو أسيرٌ جاء غازياً فعاد شاهداً؛ يقول للعالم إن المقاومة ليست فقط بندقية، بل قلبٌ لا يخون، وكرامة لا تنحني، وإنسانية تقهر القيد والعدو معاً.