
وانطفأ النور
كتب محمد حمدي سعد – شمال سيناء
كان الظلام الذي أحاط بي في تلك اللحظة ليس ظلامًا عاديًا، بل كان انطفاءً كاملًا للعالم من حولي. في أول العقد الرابع من عمري، حيث تكون الحياة في أوج نشاطها وطموحاتها، فقدت نعمة البصر.
لم تكن محنة بالمعنى الذي قد يتصوره البعض، بل كانت لحظة تحول، نقطة فارقة رسمت لي طريقاً جديداً لم أكن أتخيله.
لا أسرد تجربتي هذه من باب الفخر، فالفخر ليس لي فيها نصيب، وإنما هي من بابي الشكر لله سبحانه وتعالى، فالفضل لله كان أولها وأخرها ، والفضل لله كان أسمى معانيها ، الذي منّ عليّ بنعمة الصبر، وألهمني سبيل الرضا، فالصبر درس وليس كلمة، ثم وفّقني لاكتشاف كنوز في نفسي لم أكن أعلم بوجودها.
لقد كان فضل الله عليّ عظيمًا، حيث منّ عليّ بقوة روحية جعلتني استجمع قواي، وأستعيد رباطة جأشي، وعلى الرغم من قسوة الظروف وتلك الآلام المبرحة التي نتجت عن تلك اللحظة ، ولكن الله كان لطيفًا بي ورحيمًا بي دومًا، وما أدمى القلب تغير الكثير من الأهل والأحباب والرفاق ، فكانت المحنة كاشفة لقيم المحيطين بي، فمنهم من دعمني وساندني وربت على كتفي ومنحني ابتسامة فيها الحب والدعم، ومنهم من أعرض عني وكأني قد أجرمت وأصبحت عاجزًا فرفضني وآثر البعد عني، فلله أمرهم وجزاؤهم، وبفضل الله وتوفيقه الذي هداني إلى أن أقرر أن الحياة لم تتوقف، بل تغيرت أدواتها.
بدأت رحلتي الجديدة باستعداد كامل للتعلم، كانت أولى خطواتي هي إعادة تدريب حواسي ومهاراتي على التكيف مع واقعي الجديد. كنت كالطفل يتعلم المشي من جديد، لكن بإرادة بالغ يدرك أن عليه أن يصل. لم يكن الأمر سهلًا، لكن العزيمة كانت سلاحي. وانضممت إلى نادي المكفوفين، لا طلبًا للعطف، بل بحثًا عن معرفة، وشوقًا إلى الاندماج في مجتمع يشاركني التحدي ويتحدى معي الظروف.
هناك، وجدت الدعم والنصح، وأدركت أني لست وحيدًا في هذه الرحلة. ثم جاءت مرحلة جديدة من التحدي: رحلة الدراسات العليا. حلم الحصول على الماجستير كان حلمًا كبيرًا يواجهه جبل من العقبات.
كيف أتنقل بين المكتبات والقاعات؟ كيف أقرأ المراجع والأبحاث؟ وكيف أكتب رسالتي؟ وكانت أكبر التحديات هي التعامل مع نصوص (PDF) التي بدت كقلعة حصينة أمامي. في خضم هذه التحديات، وجدت بفضل الله المنفذ والوسيلة: الحاسب الآلي باستخدام البرنامج الناطق (NVDA). عن طريق برامج تدريبية عبر الإنترنت مقدمة من معهد الحاسبات التابع للقوات المسلحة ، تعلمت فيه الكثير وعلى يد مدربين من المكفوفين ، والذين علمونا وأضافوا إلينا الثقة والعزم والتحمل فلهم منا التقدير والعرفان بالجميل ، كان تعلم هذا البرنامج نقلة نوعية في حياتي. فتح لي أبواب المعرفة على مصراعيها. لم يعد النص مخطوطاً مغلقاً، بل أصبح كلمات مسموعة أتلقفها بكل شغف. بفضل الله أولاً، ثم بفضل هذه المهارة الجديدة، استطعت أن أتحول من شخص يواجه مشكلة في قراءة سطر واحد، إلى باحث ينهل من بحور الكتب والمصادر.
تحولت العقبات إلى دروس، والمشاكل إلى حلول. وبجهد متواصل، وإيمان راسخ، وتوفيق من الله، نجحت في اجتياز درجة الماجستير، وأحمد الله أني أستعد الآن لخوض غمار درجة الدكتوراه، حاملًا معي خبراتي وتجربتي، ومؤمنًا بأن الإرادة تصنع المعجزات.
وأخيرًا، أقول هذه الرسالة من قلبي إلى أحبابي وإخواني من المكفوفين: كف البصر نقطة تحول وليست نهاية المطاف، أما أن تدفعك إلى التفوق، وأما أن تجذبك إلى الاعتمادية والاتكالية.
نعم، لقد فقدنا نعمة البصر، لكننا لم نفقد البصيرة، ولم نفقد العقل، ولم نفقد الإرادة.
الظلام الخارجي لا يجب أن يخيم على قلوبنا وعزائمنا. تحديكم لإعاقتكم هو انتصار للروح البشرية، ونجاحكم هو رسالة أمل لكل من يعاني.
لا تسمحوا للإعاقة أن تحد من طموحاتكم، بل اجعلوها وقوداً لتحقيق ما قد يعجز عنه الكثير من أصحاب البصر. فالحياة معاقة لا بإعاقة الجسد، ولكن بإعاقة الهمة والعزيمة.