
نزيف القيم
كتب محمد حمدي سعد – شمال سيناء
في زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتتصدر الماديات مشهد الاهتمام الإنساني، يشهد عالمنا، ولا سيما مجتمعاتنا الثانوية (المجتمعات المحلية والصغيرة)، ظاهرة خطيرة تهدد نسيجه الاجتماعي، ألا وهي “نزيف القيم والأخلاق”. هذا النزيف ليس مجرد تغير في العادات، بل هو انزياح عن جوهر الإنسانية الذي بنته الشرائع السماوية ورسخته الموروثات الثقافية الأصيلة.
لقد أصبحنا نعايش تراجعًا ملحوظًا في المخزون القيمي والأخلاقي الذي كان يشكل حصانة للمجتمع ويمنحه مناعة ضد الانحرافات.
ولنا وقفة مع المخزون الثقافي القيمي والذي هو تراث من الحكمة لطالما شكلت العادات والتقاليد والقيم الأخلاقية في مجتمعاتنا الثانوية (كالقرى والأحياء والمدن الصغيرة) نظامًا دفاعيًا عضويًا. كانت هذه المجتمعات تعمل كخلية النحل، يتعاون أفرادها، ويتراحمون، ويقومون الأمر بالمعروف وينهون عن المنكر. هذا المخزون لم يكن من صنع البشر فحسب، بل كان متوافقًا مع الفطرة السليمة والتوجيهات الربانية. يقول الله تعالى في محكم التنزيل: “وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” (المائدة: 2). هذه الآية تجسد أحد أهم أسس المخزون القيمي: التعاون، الذي كان سمة بارزة في تلك المجتمعات.
ويتجلى النزيف والذي يُعدُ جراح في جسد المجتمع بحيث يمكن رصد مظاهر هذا النزيف في سلوكيات أصبحت مألوفة للأسف فيما يلي : –
1 – ضعف الصلات الأسرية والاجتماعية: فقدان روح التواصل بين الجيران والأقارب، وحلول الفردية محل الجماعية. يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بقوله: “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن”. قيل: من يا رسول الله؟ قال: “الذي لا يأمن جاره بوائقه” (رواه البخاري). فإذا كان الأذى قد حل محل الأمان، فأين نحن من هذه القيمة؟
. 2 – تراجع قيم الصدق والأمانة: انتشر الكذب في المعاملات والوعود، وضَعُفَتْ الوازع الديني الذي يمنع خيانة الأمانة. يقول تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ” (الأنفال: 27). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلقب بالصادق الأمين قبل البعثة.
. 3 – الفساد الإداري والوظيفي: من أخطر مظاهر نزيف الأخلاق في مجتمعاتنا الثانوية، حيث ينتشر الرشوة والمحسوبية وإهدار المال العام. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم” (رواه الترمذي).
. 4 – الاعتداء على الحقوق العامة: من إيذاء الجيران برفع الأصوات أو إلقاء النفايات، إلى الاعتداء على الطرقات والأماكن العامة. كل هذه من صور عدم المراعاة للآخرين، وهي منافية لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار” (رواه ابن ماجة).
. 5 – غياب الحياء: الذي هو شعبة من شعب الإيمان، كما في الحديث. فاستسهال القبائح، والتبرج، والكلام البذيء، كلها علامات على نزيف قيمة “الحياء” التي كانت سائدة .
وتتمثل أسباب النزيف فيما يلي :
بحيث لا يحدث هذا التدهور من فراغ، بل هناك عوامل متعددة تقف وراءه ومنها :
أ – الغزو الثقافي والعولمة: عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تروج لنمط حياة منفلت من القيم الأخلاقية والدينية، وتقدم النموذج المادي على أنه المثال الأعلى.
ب – التربية المنزلية والمدرسية: تراجع دور الأسرة في غرس القيم، واقتصار دور المدرسة في كثير من الأحيان على الجانب المعرفي دون التربوي.
ج – الضعف الإيماني: حين يضعف الوازع الديني في النفوس، تتراجع الحصانة الداخلية ضد الانحراف. يقول تعالى: “إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ” (العنكبوت: 45).
د – الفقر والبطالة: قد تدفع الضغوط الاقتصادية بعض الأفراد إلى التخلي عن قيمهم من أجل لقمة العيش، فيقعون في الرشوة أو السرقة أو غيرها.
ه – ضعف القدوة: غياب النماذج الأخلاقية القوية في مواقع التأثير (السياسية، الاجتماعية، الإعلامية) يسهل عملية الانجراف الأخلاقي.
ولإعادة بناء الحصانة نحو استعادة المخزون القيمي علينا أن :
مواجهة هذا النزيف والتي تحتاج إلى جهد جماعي متكامل:
1 – تفعيل دور الأسرة: يجب أن تعود الأسرة لدورها التربوي الأول، بغرس القيم منذ الصغر، ومتابعة الأبناء، واختيار البيئة الصالحة لهم.
. 2 – إصلاح المنظومة التعليمية: بإعادة الاعتبار للتربية الأخلاقية ضمن المناهج، والاهتمام ببناء الشخصية المتوازنة قبل الشخصية الأكاديمية.
. 3 – تعزيز الدور الاجتماعي للمسجد: يجب أن يعود المسجد ليكون منارة للتربية والتوجيه وبناء المجتمع، وليس فقط مكانًا لأداء الصلوات.
. 4 – الإعلام الهادف: ضرورة وجود خطاب إعلامي بديل يركز على تعزيز القيم، ويقدم نماذج ناجحة ملتزمة، بدلًا من تعزيز النمط الاستهلاكي والفردي.
. 5 – التشريعات والحوكمة: محاربة الفساد بصرامة، وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب العادل، مما يعيد الثقة ويحفظ الحقوق.
أخيرًا وليس أخرًا نزيف القيم والأخلاق في مجتمعاتنا الثانوية هو جرس إنذار لا يمكن تجاهله. إنه تحدٍ وجودي يواجه هويتنا وكينونتنا. إن استعادة هذا المخزون ليست ترفًا، بل هي ضرورة للبقاء والنهضة. لنعمل جميعًا، كل من موقعه، على إيقاف هذا النزيف، بتجديد الإيمان في النفوس، وإحياء الدور التربوي للأسرة والمدرسة، وتعزيز قيم التعاون والصدق والرحمة. فلنتذكر قول الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (الرعد: 11). التغيير يبدأ من الداخل، ومن مجتمعاتنا الصغيرة، لتنعم بها مجتمعاتنا الكبيرة بالأمن والاستقرار والازدهار.