
طاقة نور.. “صرخة مكتبة” بقلم أ.د. زكريا محمد هيبة
في زمنٍ تتلاحق فيه التحوّلات كالسيل الجارف، وتضيق فيه دروب المعرفة على أهلها، تطالعنا مشاهد موجعة تكشف بما لا يدع مجالًا للستر هشاشة صلتنا بالكتاب، وتعرّي حجم الإهمال الذي ينهش كنوزًا معرفية صاغها رجال أذابوا أعمارهم في القراءة والبحث. وما أشدّ ما يعتصر القلب حين نرى مكتباتٍ شخصية عامرة تُباع في لحظة ضيق، أو تُترك نهبًا للاندثار، مع أنها تحمل بين رفوفها ذاكرة أمة، وتختزن في أجزائها تراث جيل بأكمله.
قبل أيام، نشر أحد العلماء صورة لمكتبته الشخصية العامرة، معلنًا عرضها للبيع تحت وطأة ظروف الحياة الضاغطة. فأصابني ذلك غمًّا بغمّ.
وزاد من وقع هذا الشعور أنّي قرأت في الفترة نفسها استغاثة لإنقاذ مكتبة الراحل الكبير أحمد أمين، تلك التي نالها الإهمال حتى أصبحت مهددة بالتلف. والعجب كل العجب أن يحدث هذا لمكتبة رجل أنجب رجلين بحجم وثقافة الدكتور حسين أحمد أمين والدكتور جلال، وكلاهما صاحب أثر مشهود في عالم التأليف والنشر العربي.
كما بلغني خبرٌ آخر عن مكتبة الأستاذ أنور الجندي-ذلك الذي وهب حياته لخدمة التراث العربي والإسلامي- وكيف كانت على وشك الضياع تحت ثقل الإهمال، لولا أن تداركها نفرٌ من العارفين بقيمتها فقاموا بترميم كتبها وأوراقها.
إن هذه المكتبات الخاصة ليست مجرد مجموعات ورقية، بل هي كنوز ثقافية ومعرفية لا تقدّر بثمن. ويكفي لإدراك قيمتها أن نذكر أنه بعد وفاة الشيخ محمود شاكر، أرسل أحد أثرياء العرب لزوجته -أم فهر- شيكًا مفتوحًا لتكتب الرقم الذي تراه مناسبًا لشراء مكتبته، لكنها رفضت بلطف، مؤكدة أن كل كتاب من تلك الكتب يحمل أنفاس الشيخ ويُجسّد سيرته الفكرية.
إن ضياع مكتبة واحدة ليس فقدًا لكتبٍ صامتة، بل هو اقتلاع لصفحة من ذاكرة الأمة وطمسٌ لنبضٍ حيّ من تاريخها الفكري. وإن لم نُحسن الاحتفاء بتراث علمائنا وصنّاع المعرفة فينا، فسنجد أنفسنا ذات يوم أمام خساراتٍ لا يُرمَّم صدعها ولا يُعوَّض غيابها. فالمكتبات ليست خشبًا يعلوه الورق؛ إنما هي أرواحٌ تسكن بين السطور، وحيوات كاملة تنبض بفكرٍ خُلِق ليبقى.