آراء وتحليلات

استوديو التحليل.. شمال سيناء على خريطة الثقافة المصرية… حين يصبح التراث قوة أمن قومي

بقلم / سهام عزالدين جبريل

حين نتحدث عن شمال سيناء، كثيرًا ما تختزل الصورة في البعد الجغرافي أو الظروف الأمنية، بينما يغيب عن المشهد أن هذه المنطقة تمثل نقطة توازن ثقافي وتاريخي في الهوية المصرية، وجسرًا طبيعيًا بين مصر والشرق، وبين البحر المتوسط والعالم العربي.
إن وضع شمال سيناء على خريطة الثقافة المصرية ليس مشروعًا تزيينيًا، بل خيارًا استراتيجيًا يرتبط بوحدة الهوية الوطنية وحماية الأمن القومي عبر الثقافة.

ثقافات فرعية وهوية واحدة

يمثل المجتمع السيناوي حالة نموذجية لفكرة الثقافات الفرعية المتكاملة داخل الهوية الجامعة.
فالقبائل السيناوية تحمل تراكمًا معرفيًا ممتدًا عبر قرون، يتجلى في:

البنية العرفية والعادات الاجتماعية التي تنظّم العلاقات.

الفنون التراثية مثل المطرزات البدوية والفضيات.

الحرف اليدوية والمهارات البيئية التي تشكل جزءًا من الاقتصاد المحلي.

اللغة الشفاهية والأغاني الشعبية التي تحفظ الذاكرة الجمعية.

ملاحم البطولة والصمود والحفاظ على التراب الوطنى والهوية

هذه العناصر ليست مجرد تراث جامد، بل بنية ثقافية حية قادرة على التطور والتجدد إذا تمت إعادة توظيفها في سياق وطني مستدام، بدلاً من تركها في هامش التجاهل أو الاستهلاك السياحي السريع.

التراث كأداة للتنمية والاستقرار

يمثل التراث الحرفي في شمال سيناء مدخلاً مهمًا إلى الاقتصاد الإبداعي، وهو قطاع اقتصادي متنامٍ يعتمد على تحويل العناصر الثقافية إلى منتجات ذات قيمة سوقية.
تطوير منتجات مثل:
التطريز البدوي السيناوى ، الصناعات الجلدية، السجاد اليدوي، والنباتات الطبية والعطرية،
يمكن أن يخلق سلاسل قيمة اقتصادية تدعم دخل الأسر، وتعزز الاستقرار الاجتماعي، وتوفر فرص عمل للشباب، والنساء على وجه الخصوص.

وبذلك، يتحول التراث من مجرد ذاكرة محفوظة إلى أداة تمكين واقتصاد محلي، تعزز ارتباط الإنسان بالأرض، وتخلق شبكات من الحماية الاجتماعية.

البعد البيئي والمعرفة المحلية

تتميز سيناء ببيئة طبيعية خاصة ومناخ متنوع، أنتج خبرات فريدة في التعامل مع المياه، والزراعة المتكيفة، والطب الشعبي، والرعي التقليدي.
هذه المعرفة البيئية يمكن أن تكون أساسًا لمشاريع حديثة تقوم على:
الاقتصاد الأخضر، الصناعات الطبيعية، السياحة البيئية، وإدارة الموارد المحلية،
في شراكات بين المؤسسات الأكاديمية والقبائل المحلية، بما يربط العلم الحديث بالخبرة المتوارثة.

الثقافة كقوة للأمن القومي

لا يمكن فصل الثقافة عن الأمن القومي، خاصة في مناطق الحدود.
فالثقافة ليست «تزيينًا للهوية»، بل هي بنية الحماية الأولى؛ لأن الفرد الذي يشعر بقيمة تراثه واعتراف وطنه به يكون أكثر ارتباطًا بأرضه وأكثر وعيًا بمحاولات الاختراق الفكري أو السرديات المعادية.

وقد أكدت تجارب دول كثيرة أن النسيج الاجتماعي المتماسك هو العامل الأهم في الاستقرار.
وبالنسبة لشمال سيناء، فإن إدماج الثقافة السيناوية في المشهد الوطني يخلق:
شعورًا بالانتماء المتبادل، ثقة بين الدولة والمجتمع، وعيًا بالخصوصية المحلية، وقدرة أكبر على مواجهة الخطابات العابرة للحدود.

سيناء والبعد المتوسطي

يمثل موقع سيناء نقطة عبور حضارية، ما يمنحها بعدًا متوسطيًا فريدًا، ليس فقط في الجغرافيا، بل في الحضارة والعلاقات الثقافية.
هذا يفتح المجال أمام تواصل ثقافي مع بلدان المتوسط ومراكز التراث الإقليمي، وتحويل شمال سيناء إلى منصة للتبادل الثقافي والمشروعات العابرة للحدود، بما يعزز حضور مصر الثقافي في الإقليم.

نحو رؤية عملية

لوضع شمال سيناء على خريطة الثقافة، نحن بحاجة إلى رؤية عملية تشمل:

1. توثيق شامل للتراث الحرفي والشفاهي، وإطلاق أرشيف رقمي للذاكرة السيناوية.

2. تطوير الصناعات التراثية عبر التدريب والحاضنات الاقتصادية.

3. إدماج التراث في التعليم عبر مناهج تعرف الأطفال بثراء سيناء .
فتح اقسام فى جامعات سينا عن التراث بكافة أشكاله وانماطه ليكون مرجعا علميا موثقا

4. السياحة الثقافية والبيئية بدل السياحة العابرة.

5. حضور إعلامي للموروث السيناوي عبر الدراما والبرامج الوثائقية.

6. شراكات مع القبائل بوصفهم شركاء في التنمية، وليسوا موضوعًا للدراسة فقط

وفى النهاية ترى ومن وجهة نظر علمية وعملية وعن تجربة واقعية على أرض سيناء إن إعادة وضع شمال سيناء على خريطة الثقافة المصرية ليست مشروعًا ثقافيًا فحسب، بل إعادة بناء علاقة أعمق بين الإنسان والمكان والهوية.
حين نعيد الاعتبار للثقافات الفرعية باعتبارها جزءًا من الهوية الكبرى، نعيد تعريف الأمن القومي باعتباره ثقافة وانتماء وذاكرة مشتركة، لا مجرد جغرافيا وحدود.

سيناء ليست هامشًا، بل ذاكرة مصر الشرقية… ذاكرة لا تُحفظ إلا حين تتحول إلى مشروع حي يستثمر التراث، ويعزز المواطنة، ويترجم ملاحم البطولة على أرضها المباركة ويؤسس لرؤية وطنية تنظر إلى الثقافة كقوة مستقبل لا كتراث ماضٍ.

خالص تحياتى
❤️ ❤️
د/ سهام عزالدين جبريل
دكتوراه في الإعلام السياسي والعلاقات الدولية
-زمالة الأكاديمية العسكرية للدراسات الاستراتيجية العليا – عضو البرلمان المصري سابقًا