آراء وتحليلات

فازت فلسطين

بقلم : الدكتور / السيد مرسى الصعيدى

يُخيَّل إليَّ أن الكرة، تلك الدائرة الصغيرة التي تتقاذفها الأقدام في ملاعب الدنيا، ليست إلا مرآة تُعكس عليها أحوال الأمم، من القوة والصلابة ، وتعلن أنها صاحبة ارادة، مهما تكاثفت من حولها الغيوم وهكذا خرج منتخب فلسطين إلى بطولة كأس العرب 2025 لا ليشارك فحسب، بل ليكتب في الذاكرة على جسد الزمن،  ان هذا الفريقً لا يلعب وحده، بل تصاحبه في كل خطوة ذاكرة شعب وثِقَل قضية، حيث واجه قطر بصلابة فلاح فلسطيني يعرف أرضه شبراً شبراً، وانتصر بهدف، ثم كانت تونس بخبرتها وعراقتها، فإذا باللقاء يتحول إلى رقصة قتالية ، وانتهى المشهد بالتعادل ، ثم سوريا البلد الذي يشبه فلسطين في جراحه وصبره، فكان التعادل الثالث، تعادل المتعبين الذين يعرفون أن البطولة ليست دائماً في تسجيل الأهداف بل في القدرة على البقاء واقفين ، خمس نقاط. لكن الحقيقة أن فلسطين حصلت على إجماع المشاهدين من المحيط إلى الفؤاد،  ان لهذا الفريق شعباً كاملاً ينتظر أن يهتف باسم بلاده ولو مرة واحدة بلا خوف، وهكذا، تأهَّل المنتخب الفلسطيني … تأهُّل تبرق فيه العيون، وتُرفع له القبعات، وتنهض له الحكايات من سباتها، وليس غريباً أن يقول القاصي منهم والداني- إن فلسطين حققت فوزاً آخر لا يُكتَب في سجلات الفيفا، لكنه ينقش نفسه في الوعي العام،  فوزٌ على آلة الاحتلال التي حاولت دهوراً أن تطمس الصوت والحكاية واللون والراية، فوزٌ ليس بالعضلات ، بل على الوجود ، ذلك أن العالم، وهو يراهم يركضون، اكتشف فجأة أن فلسطين لا يمكن محوها من الخريطة ما دام أبناؤها قادرين على ترتيب تمريرة، وعلى صناعة فرصة، وعلى الاحتفال بهدف يخرج من بين أضلاع المعاناة كغصن زيتون يشقّ الجدار، لقد انتصروا في شيء أبقى من مباراة…  انتصروا في معركة التعريف ، قالوا ومن يقدر على حجب نورنا؟ حيث يقف اللاعب الفلسطيني في الملعب وكأن وراءه مدينة كاملة، وحول عنقه مفتاح بيت جده المعلّق منذ النكبة، وفي يده اليمنى راية لا ينزلها، وفي اليسرى أمنية طفل يريد أن يرى بلاده تنعم يوماً بسلام بسيط لا يقطع طريقه جندي ولا حاج، فكيف لا ينتصر من يحمل كل هذا؟ وكيف لا يتقدم إلى دور الثمانية وهو يَعدّ الطريق لا بعدد النقاط بل بعدد الحكايات التي يجرّها معه؟

وأخيرا …. ليس المهم أن تصل إلى الكأس، لكن المهم أن ترسّخ في ذاكرة العالم أن فلسطين قادرة على أن تكون في الصدارة – ولو لمرة واحدة- في زمن يزدحم بالمحن.، وان هؤلاء الأبطالٌ يمشون على حافة الأسطورة، وهم لا يدرون أنهم فى كل خطوة يخطونها يُشيّدون مجدًا جديدًا لوطنٍ يتنفس الصمود، يمضون فى الملعب بقلوبٍ أثقلتها الجراح، لكن أرواحهم ما تزال خفيفة كأنها تعرف طريقها إلى الفرح رغم كل ما حاق بها. لا يرفعون رؤوسهم طلبًا للضجيج، بل يرفعونها لأن جباههم اعتادت ألا تنحني إلا لله …