
دولة القراء
بقلم الدكتور: السيد مرسى الصعيدى
في زمنٍ تتزاحم فيه الضوضاء، ويعلو فيه الصخب على المعنى، يجيء برنامج “دولة التلاوة” كواحةٍ من السكينة، وكشاهدٍ بليغ على أن مصر دولة قراء القران الكريم بلا منازع – إذا ما ذُكرت – ذُكرت معها التلاوة، وإذا سُئل عن القرآن، أشار الناس إلى حناجرها قبل أن يشيروا إلى خرائطها.
ليس “دولة التلاوة” برنامجًا عابرًا في جدول البث، ولا هو مسابقة تُقاس بالتصويت والأرقام، بل هو وثيقة حضارية، تُعيد الاعتبار لمدرسةٍ مصريةٍ عريقة، صاغت وجدان الأمة بقدر ما صاغت أسماعها، ورفعت التلاوة من حدود الصوت إلى آفاق الروح، حين لم يتعامل مع القارئ باعتباره صاحب حنجرة فحسب، بل بوصفه حامل رسالة، ووارث تقليدٍ جليل، بدأ من الأزهر، ومرّ بالمآذن، واستقر في الضمير الجمعي للأمة. فالقارئ المصري – قديمًا وحديثًا – لم يكن يومًا مجرد مجوّد، بل كان معلّمًا، ومربّيًا، وسفيرًا للقرآن في الدنيا كلها ، ويدرك أن مصر لم تُنجب أصواتًا فريدة فحسب، بل أنشأت مدرسة كاملة لها أصولها وطرائقها ومقاييسها الصارمة. مدرسةٌ خرج منها عمالقةٌ لا تُذكر أسماؤهم إلا مقرونة بالإجلال: من شيوخٍ رسخوا المقامات، وأحكموا الوقف والابتداء، وجعلوا من التلاوة علمًا له قواعد، وذوقًا له ميزان.
وقد جاء “دولة التلاوة” ليضع هذه الحقيقة في موضعها الصحيح، لا باعتبارها ماضيًا نتغنى به، بل حاضرًا متجددًا، يحمل المشعل ذاته، ويضيف إليه من حسّ العصر دون أن يفرّط في جوهر الرسالة، فأظهر البرنامج أن القراء المصريين اليوم ليسوا صدىً باهتًا لأسلافهم ، بل امتدادًا حيًا لهم، يحفظون الأمانة، ويجددون الوسيلة ، وما يُحسب للبرنامج – وهو كثير – أنه لم يسعَ إلى الإثارة الرخيصة، ولا إلى استدرار العواطف، بل اعتمد على القيمة الخالصة: قيمة الصوت إذا انضبط بالعلم، وقيمة الأداء إذا سمت به الخشية، وقيمة القرآن إذا تلاه من يعرف قدره ، وهنا تتجلى عظمة الفكرة؛ باعتبارها، لا تقل خطرًا عن السياسة ولا دونًا عن الثقافة، إن “دولة التلاوة” يذكّرنا بحقيقة طالما نسيها العجولون: أن لمصر ريادة لا تُقاس بعدد السكان ولا بضجيج المنابر، بل بما أودعته في الوجدان الإنساني، وقد أودعت فيه قرآنًا يُتلى كما ينبغي أن يُتلى، بصوتٍ إذا سُمع عُرفت هويته، وإذا غاب افتقدته الدنيا.
وأخيرا … هذه الإشادة ليست ترفًا، بل واجب لأنه أعاد الاعتبار للقراء المصريين في مصر والعالم، قدامى وحاليـن، وأثبت لمن كان له سمع أو ألقى السمع وهو شهيد – أن مصر ستظل دولة التلاوة، ما دام في صدورها قرآن، وفي حناجر أبنائها صدق، وفي وعيها إيمان بأن الرسالة قبل الشهرة، والمعنى قبل الصوت.